نشأ المجتمع الإسلامي الأول نشأة طبيعية متكاملة غير متكلفة, جمعت بين
بقايا من الفطرة السليمة والوحي المنزل من عند الله سبحانه وتعالى, كان
العرب يومها وخاصة أهل المدن كقريش و الأوس والخزرج أقرب إلى الفطرة من
الأمم الأخرى, فلا ريب أن الله اختار لنبيه أفضل الأجيال, رباهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بكنفه ورعايته فكانوا: " كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ
فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار"(الفتح 29 ). وعندما يبدر
من أحدهم أي اجتهاد يخالف الحنيفية السمحة كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصحح لهم الطريق ويعود بهم إلى الجادة المستقيمة, وعندما همّ ثلاثة من
الصحابة بترك الدنيا من نساء وأموال بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بردهم إلى الطريق الوسط قائلاً لهم: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام
وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني "عندما نتكلم عن الصوفية فإنما
نقصد المعنى الاصطلاحي, أي الصوفية التي جاءت بكتب ومصطلحات خاصة, فيها
إشكالات وبعد عن المنهج الإسلامي الصحيح أدت فيما بعد إلى أمور خطيرة مثل
الإتحاد والحلول, والفرق بين الزهد الأول والتصوف هو كالفرق بين التشيع
بمعناه اللغوي الذي هو المناصرة والمحبة لعلي رضي الله عنه بدون غلو وبين
التشيع الذي استقر أخيراً كفرقة لها عقائدها المميزة بعد أن أدخلت الباطنية
الغلو في علي توسلاً إلى الطعن في الصحابة, وهكذا بثت الباطنية تعاليمها
الإلحادية في غلاة الصوفي.
إن اعتبار الصوفية (فرقة) لا بد أن يثير
الاستغراب والتساؤل, لأن الاعتقاد السائد أنهم من غمار أهل السنة.لا شك
أنه تفرق وبعد عن خط أهل السنة والجماعة وعقد ابن حزم في كتابه ( الفصل في
الملل والنحل ) فصلاً لذكر ( شنع قوم لا تعرف فرقهم ) ثم قال: " وادعت طائف
من الصوفية أن في أولياء الله من هو أفضل من جميع الأنبياء، وأن من عرف
الله فقد سقطت عنه الأعمال"
والقصد أننا لا نعني بكلمة فرقة إلا التفرق المذموم في الشرع وهو الابتعاد عن أصالة الإسلام الذي يمثله جيل الصحابة ومن تبع أثرهم. ونحن نعلم أن هناك أفاضل ينتسبون إلى التصوف ولكن هذا لا يمنع من الكلام عن الصوفية بشكل عام، وهؤلاء العلماء أخذوا بجانب الصوفية لظنهم أنها الطريق الوحيد لتربية النفس، وهذا خطأ منهم، ومع ذلك فهم لا يتعمقون في التصوف المنحرف المؤدي إلى البطالة أو الكفر، والمرجئة كذلك تصنف مع الفرق ومع ذلك فقد ابتلي بها بعض العلماء فإذا اعتبرنا الصوفية فرقة ابتعدت قيلاً أو كثيراً عن منهج السلف فلا يعني هذا أن كل من انتسب إليها ضال منحرف, فقد يكون من أعظم العباد ولكن فيه نقصاً في جانب من جوانب الإسلام الشامل المتكامل والمسلم يكون فيه من النقص بمقدار ابتعاده عن السنة.
فالتوسط هو الأصل وإذا نظرت في عموميات الشريعة، فتأملها تجدها حاملة على الوسط, فطرف التشديد يؤتي به في المقابلة من غلب عليه الانحلال، وطرف التخفيف في مقابلة من غلب عليه الحرج الشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً وهو الأصل الذي يرجع إليه.
كان الصحابة رضوان الله عليهم فيهم الفقير والغني, وفيهم التاجر والمزارع والعامل وكان بعضهم يتناوب الحضور للتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغه للآخرين, وأما أهل الصفة فإنهم لم ينقطعوا للعبادة أو العلم باختيارهم وإنما كان أحدهم إذا وجد عملاً ترك حاله الأولى, هكذا كانت حياة الصحابة حياة طبيعية تجمع بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله، وبينما هو متعلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو بين أهله وولده وضيعة يمارس حياته اليومية المعتادة. والتزام أحدهم بعبادة معينة أكثر من الآخرين كفعل عبد الله بن عمرو بن العاص لا يغير من الصورة شيئاً, فهو شخصية متكاملة ولا تزال الفوارق الفردية تمايز بين الناس في جانب دون آخر. فهم كما وصفهم الإمام الجويني: " ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء .
عرف التصوف في بداياته بأنه رياضات نفسية ومجاهدات للطباع , وكسر لشهوات النفوس وتعذيب للجسد كي تصفو الروح , وإذا كان هذا الصفاء الروحي يأتي بدون تكلف عند السلف نتيجة التربية المتكاملة فنحن هنا بصدد تشدد وتكلف لحضور هذا الصفاء، وبصدد تنقير وتفتيش عن الإخلاص يصل إلى حد الوساوس، وسنرى من أقوالهم وأحوالهم ما يؤيد هذا .
قال الجنيد - ويسمونه سيد الطائفة-: " ما أخذنا التصوف عن القيل والقال بل عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات ". ويصف معروف الكرخي نفسه فيقول : " كنت أصبح دهري كله صائماً , فإن دعيت إلى طعام أكلت ولم أقل إني صائم " ويقول بشر الحافي: " إني لأشتهي شواء ورقاقاً منذ خمسين سنة ما صفا لي درهم ". ويرى الجنيد عند شيخه السري السقطي خرف كوز مكسور فيسأله عن ذلك فيقول: أبردت لي ابنتي ماء في هذا الكوز ثم غلبتني عيني فرأيت جارية فسألتها لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء البارد وضربته بيدها فانكسر . ويروي الجنيد عن بعض الكبراء أنه إذا نام ينادي: أتنام عني! إن نمت لأضربنك بالسياط، وحكى الغزالي عن سهل بن عبد الله أنه كان يقتات ورق النبق مرة، ويشجع الغزالي على السياحة في البراري بشرط التعود على أكل أعشاب البرية والصيد!؟
ومن آداب الصوفية عند أبي نصر السراج: ( إيثار الذل على العز، واستحباب الشدة على الرخاء )، ورتبوا أموراً لمن يريد الدخول معهم أو للمريد ومنها: اشتراط الخروج من المال كما يذكر القشيري في رسالته , وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء وأن يترك التزوج ما دام في سلوكه، و أما أبو طالب المكي فيطلب من المريد ألا يزيد على رغيفين في اليوم والليلة , والجنيد يطلب من المريد ألا يشغل نفسه بالحديث. كل هذه الأمور تخالف التوسط والحنيفية السمحاء وتخالف ما كان علية الصحابة ومن ميزات هذه المرحلة:
استحداث ما يسمونه ( السماع ) وهو الاستماع إلى القصائد الزهدية المرققة، أو إلى قصائد ظاهرها الغزل ويقولون: نحن نقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم , ومنشدهم يسمونه ( القوّال ) ويستعمل الألحان المطربة.
شيء آخر لا بد أن يكون واضحاً وهو أنه عند توضيحنا لمنهج الصوفية فهذا لا يعني أن كل فرد من أفرادهم قد حكمنا عليه بفساد المعتقد وسوء المنقلب، فكثيراً ما يلتبس الحق بالباطل ويجتمع في الرجل الواحد الخير والشر والسنة والبدعة ومن العدل أن نذكر هذا وهذا لأن بعض الناس يظنون أن الصوفية هي الطريق الصحيح لما نشأوا عليه من صغرهم أو ما شاهدوه من آبائهم ومشايخهم، ولكن لا بد من تبصيرهم بدينهم الحق وإبعادهم عن البدع التي يحسبونها صغيرة وهي عند الله كبيرة.
حقيقة التصوف في الإسلام |
والقصد أننا لا نعني بكلمة فرقة إلا التفرق المذموم في الشرع وهو الابتعاد عن أصالة الإسلام الذي يمثله جيل الصحابة ومن تبع أثرهم. ونحن نعلم أن هناك أفاضل ينتسبون إلى التصوف ولكن هذا لا يمنع من الكلام عن الصوفية بشكل عام، وهؤلاء العلماء أخذوا بجانب الصوفية لظنهم أنها الطريق الوحيد لتربية النفس، وهذا خطأ منهم، ومع ذلك فهم لا يتعمقون في التصوف المنحرف المؤدي إلى البطالة أو الكفر، والمرجئة كذلك تصنف مع الفرق ومع ذلك فقد ابتلي بها بعض العلماء فإذا اعتبرنا الصوفية فرقة ابتعدت قيلاً أو كثيراً عن منهج السلف فلا يعني هذا أن كل من انتسب إليها ضال منحرف, فقد يكون من أعظم العباد ولكن فيه نقصاً في جانب من جوانب الإسلام الشامل المتكامل والمسلم يكون فيه من النقص بمقدار ابتعاده عن السنة.
فالتوسط هو الأصل وإذا نظرت في عموميات الشريعة، فتأملها تجدها حاملة على الوسط, فطرف التشديد يؤتي به في المقابلة من غلب عليه الانحلال، وطرف التخفيف في مقابلة من غلب عليه الحرج الشديد فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً وهو الأصل الذي يرجع إليه.
كان الصحابة رضوان الله عليهم فيهم الفقير والغني, وفيهم التاجر والمزارع والعامل وكان بعضهم يتناوب الحضور للتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ويبلغه للآخرين, وأما أهل الصفة فإنهم لم ينقطعوا للعبادة أو العلم باختيارهم وإنما كان أحدهم إذا وجد عملاً ترك حاله الأولى, هكذا كانت حياة الصحابة حياة طبيعية تجمع بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله، وبينما هو متعلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو بين أهله وولده وضيعة يمارس حياته اليومية المعتادة. والتزام أحدهم بعبادة معينة أكثر من الآخرين كفعل عبد الله بن عمرو بن العاص لا يغير من الصورة شيئاً, فهو شخصية متكاملة ولا تزال الفوارق الفردية تمايز بين الناس في جانب دون آخر. فهم كما وصفهم الإمام الجويني: " ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء .
عرف التصوف في بداياته بأنه رياضات نفسية ومجاهدات للطباع , وكسر لشهوات النفوس وتعذيب للجسد كي تصفو الروح , وإذا كان هذا الصفاء الروحي يأتي بدون تكلف عند السلف نتيجة التربية المتكاملة فنحن هنا بصدد تشدد وتكلف لحضور هذا الصفاء، وبصدد تنقير وتفتيش عن الإخلاص يصل إلى حد الوساوس، وسنرى من أقوالهم وأحوالهم ما يؤيد هذا .
قال الجنيد - ويسمونه سيد الطائفة-: " ما أخذنا التصوف عن القيل والقال بل عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات ". ويصف معروف الكرخي نفسه فيقول : " كنت أصبح دهري كله صائماً , فإن دعيت إلى طعام أكلت ولم أقل إني صائم " ويقول بشر الحافي: " إني لأشتهي شواء ورقاقاً منذ خمسين سنة ما صفا لي درهم ". ويرى الجنيد عند شيخه السري السقطي خرف كوز مكسور فيسأله عن ذلك فيقول: أبردت لي ابنتي ماء في هذا الكوز ثم غلبتني عيني فرأيت جارية فسألتها لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء البارد وضربته بيدها فانكسر . ويروي الجنيد عن بعض الكبراء أنه إذا نام ينادي: أتنام عني! إن نمت لأضربنك بالسياط، وحكى الغزالي عن سهل بن عبد الله أنه كان يقتات ورق النبق مرة، ويشجع الغزالي على السياحة في البراري بشرط التعود على أكل أعشاب البرية والصيد!؟
ومن آداب الصوفية عند أبي نصر السراج: ( إيثار الذل على العز، واستحباب الشدة على الرخاء )، ورتبوا أموراً لمن يريد الدخول معهم أو للمريد ومنها: اشتراط الخروج من المال كما يذكر القشيري في رسالته , وأن يقلل من غذائه بالتدريج شيئاً بعد شيء وأن يترك التزوج ما دام في سلوكه، و أما أبو طالب المكي فيطلب من المريد ألا يزيد على رغيفين في اليوم والليلة , والجنيد يطلب من المريد ألا يشغل نفسه بالحديث. كل هذه الأمور تخالف التوسط والحنيفية السمحاء وتخالف ما كان علية الصحابة ومن ميزات هذه المرحلة:
استحداث ما يسمونه ( السماع ) وهو الاستماع إلى القصائد الزهدية المرققة، أو إلى قصائد ظاهرها الغزل ويقولون: نحن نقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم , ومنشدهم يسمونه ( القوّال ) ويستعمل الألحان المطربة.
شيء آخر لا بد أن يكون واضحاً وهو أنه عند توضيحنا لمنهج الصوفية فهذا لا يعني أن كل فرد من أفرادهم قد حكمنا عليه بفساد المعتقد وسوء المنقلب، فكثيراً ما يلتبس الحق بالباطل ويجتمع في الرجل الواحد الخير والشر والسنة والبدعة ومن العدل أن نذكر هذا وهذا لأن بعض الناس يظنون أن الصوفية هي الطريق الصحيح لما نشأوا عليه من صغرهم أو ما شاهدوه من آبائهم ومشايخهم، ولكن لا بد من تبصيرهم بدينهم الحق وإبعادهم عن البدع التي يحسبونها صغيرة وهي عند الله كبيرة.
كتاب: تلبيس إبليس
مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع
إرسال تعليق