أحبابنا الكرام سلام الله عليكم.
سر نجاح التعليم الفلندي The Finland Phenomenon |
يعتبر المعلم في فنلندا العنصر المهم في العملية التعليمية ويحصل على تقدير ودعم مالي ومعنوي من المجتمع نفسه، وتعد رواتب المدرسين هناك ضمن فئة الأجور العالية كما أن المعلم لديه المرونة في اختيار طرق التدريس بل حتى المناهج والكتب، وفى الوقت نفسه فإنه يتعين لمن يريد العمل مدرسا أن يكون حاصلا على درجة الماجستير على الأقل إضافة لشهادة تربوية عليا.
تسعين في المائة من المدرسين بفنلندا هم من النساء والنسبة الأكبر بينهم لشريحة سنية أكبر من أربعين عاما، وفنلندا لا تعرف الدروس الخصوصية فهي مسألة غير واردة أبدا في ظل هذا النظام التعليمي الصارم، وتوجد حاليا خطة يتم تنفيذها تتحرك من خلالها فنلندا نحو العلم والمعرفة تركز على البحث العلمي والتدريب للسنوات من 2012 حتى 2015 تنمي فيها مبدأ المساواة والعدالة في التعليم سواء بين التلاميذ أو المدارس أو المدرسين أنفسهم، وتشمل الخطة كذلك ترسيخ مبدأ التعاون والمرونة في التعليم الثانوي سواء العام أو المهني كما يخضع المدرس لعملية تدريب مستمرة لعدة أيام مع بداية كل عام دراسي وبشكل إلزامي.
ساهم التخلص من الامتحانات في جعل فنلندا تتصدر العالم في نظامها التعليمي وتتفوق في اقتصاد المعرفة، فكيف كان لها ذلك؟ نشرت صحيفة سالون الأمريكية لقاء مع توني واغنر بروفسور جامعة هارفارد كي يشرح كيف حققت فنلندا نجاحا باهرا بالتخلي عن الامتحانات في نظامها التعليمي الذي أصبح أنجح نظام تعليمي في العالم. وتم إنتاج فيلم وثائقي عنوانه " ظاهرة فنلندا: خفايا أكثر أنظمة التعليم غرابة في العالم" حيث يتقصى الفيلم ذلك البلد الذي يتمتع بأنجح نظام تعليمي في العالم ويكشف تعارض نظرية إصلاح التعليم المهووسة بالامتحانات في العالم والولايات المتحدة تحديدا والتي لاتزال ممارساتها سائدة حتى اليوم.
ويروي واغنر، وهو صاحب التعليق بصوته في الفيلم الوثائقي المذكور ومؤلف كتاب تربوي عن فشل المدارس في تعليم المهارات الضرورية بعنوان: مسيرة تطوير النظام التعليم في فنلندا وبداياته الناجحة"، حيث أجاب عن إنجازات فنلندا في النظام التعليمي بالقول: " في مطلع السبعينيات كان لدى فنلندا نظام تعليمي رديء بإنجازاته مع اقتصاد زراعي لا يقدم سوى منتجا واحدا وهو خشب الأشجار التي كانت تقطع بمعدلات غير قابلة للاستدامة وأدركوا أنهم لن يعبروا بها نحو المستقبل القريب. وعرفوا أن عليهم مراجعة نظامهم التعليمي وتجديده لتأسيس اقتصاد معرفة فعلي". ويجيب واغنر للصحفي ديفيد سيروتا من سالون عن جذور النظام التربوي الفنلندي بقوله:" بدؤوا في السبعيينات بتغيير كامل لعمليات تحضير واختيار معلمين ومعلمات المستقبل وكانت تلك خطوة أساسية هامة لأنها أتاحت لهم ضمان مستوى احترافي عال بين الأساتذة والمعلمين. وكان كل أستاذ مؤهل بدرجة ماجستير مع تحضير وتدريب بذات المستوى العالي لكل منهم. والذي حصل بعدها هو أن التدريس أصبح أكثر المهن رقيا وتقديرا، رغم أنه لم يكن الأعلى أجر بل تمتع محترفوه بأعلى مكانة اجتماعية.
وتمكن واحد من أصل كل عشرة متقدمين للوصول إلى سلك التدريس. ثمار ذلك جاءت بأداء فنلندا في التقييم العالمي المسمى بيسا PISA حيث انتظمت فنلندا في التفوق على كل الدول الغربية بدون منازع بل أصبح من النادر أن تجد بلدا غربيا يحقق نتائج مماثلة في نظامه التعليمي. فلا يوجد اختبارات محلية عدا عن برنامج تقييم للتعرف على عينات ديموغرافية للأطفال ولا تستخدم هذه للنشر أو التقييم ولا للمقارنة بين المدارس.
الأمر المثير هو أنه بسبب تأسيسهم لمستوى عال من الاحترافية في التدريس أصبحوا يثقون بالأساتذة وأصبح شعارهم "الثقة من خلال الاحترافية" وأصبح الفرق بين أعلى المدارس أداء في فنلندا، مع أضعفها، أداء هو فارق ضئيل جدا لا يتعدى 4% وذلك دون اعتماد كل هذه المدارس لأي امتحانات.
وبسؤال واغنر عن تعارض ذلك مع المداولات التربوية في الولايات المتحدة حول إصلاحات التعليم بإدخال المزيد من الامتحانات وإغراق الأساتذة والمدرسين والمدرسات والطلاب بها أجاب بالقول: " يجري تقييم فنلندا بين أعلى الدول في مجال الابتكارات والابداع والاستثمارات الخلاقة فهي ليست بلدا اشتراكيا بأي معنى من الكلمة، أما في الولايات المتحدة فمن الغريب أنه ومنذ ربع قرن فإن من يقف وراء إصلاح قطاع التعليم هم شركات كبرى، فهناك ديفيد كيرن من شركة زيروكس ولو جستنر من أي بي إم، وهما كانا يدعوان لقمة وطنية حول التعليم ولم توجه لحضور تلك القمة أي دعوة لتربويين وخبراء في التربية والتعليم بتاتا، بل قاموا بدعوة رؤوساء تنفيذيين وحكام ولايات ورجال الكونغرس ونواب". أي أن الشركات هي صاحبة القول الأخير ولها اليد العليا في اتخاذ قرارات حول التعليم!
و أضاف بالقول: "رغم أنني أتفهم وأحترم حاجات الشركات لمهارات أفضل وأتفهم التوجس من النظام التعليمي لأنه القطاع الوحيد الذي يضمن وظيفة مدى الحياة، لكن الفرق في فنلندا هو وجود إجماع طوال 30 عاما حول أهمية التعليم وأهمية التدريس باحترافية وجودة عاليتين كحل حقيقي لأزمة النظام التعليمي. في فنلندا كانت شراكة ناجحة بين الشركات وصناع السياسات والتربويين وهو ما تحتاجه الولايات المتحدة ولا تتمكن من الحصول عليه".
واستفسر ديفيد عن اعتراض محتمل حول تجربة فنلندا وهو أنه لا مجال للمقارنة بين النظام التعليمي في فنلندا ذات المجتمع المتجانس والأنظمة التعليمية الأخرى مثل النظام الأمريكي حيث تتنوع الأعراق واللغات، فأجاب واغنر قائلا: " هناك تنوع كبير أيضا في فنلندا فهناك 15% من السكان ممن يتحدثون لغة ثانية ويتم تدريس 45 لغة في مدار هلسنكي. كما أن فنلندا تعادل 33 ولاية أمريكية مجتمعة من جانب عدد السكان، لماذا لا نقارن بين فنلندا وولاية منيسوتا التي تتشابه من الناحية الديمغرافية، فبالرغم من الاختلافات والفروقات مع دول وولاية أخرى إلا أنه هناك في التجربة الفنلندية الكثير من العبر والنجاحات التي يمكن الاستفادة منها في أي بلد في العالم".
واختتم ديفيد بالسؤال، كيف يمكن معالجة جوانب لا توجد في فنلندا مثل وجود الفقر على نطاق واسع في دولة ما لأن النظام التعليمي وحده لا يمكن أن يحل مشكلة الفقر الذي ينعكس في أداء النظام التعليمي، كما أن فنلندا لا تعاني من فروقات كبيرة من الناحية الاقتصادية بين سكانها ولا يوجد فجوة هائلة بين الفقراء والأغنياء، فهل هناك دور كبير لعدم وجود فقراء في نجاح النموذج التعليمي الفنلندي عن باقي الدول؟
أجاب واغنر بالقول: " هناك إجابتان على هذا السؤال، أولا نعم تلعب الطبقة الاجتماعية والعرق دورا في النظام التعليمي، وتتناسب نتائج الامتحانات مع معدل الفقر في كل منطقة وتلعب الأعراق والطبقة الاجتماعية دورا هامة في الأداء التعليمي. ولكن ذلك لا ينفي وجود مدارس رديئة في أغنى المناطق من المدارس الخاصة حيث شهدت أسوأ مستويات في ممارسات المدرسين حيث يصمم هؤلاء دروسهم ليجتاز الطلاب الامتحانات فقطـ، وتكون الاسئلة عملية استرجاع للتلقين والحفظ عن ظهر قلب دون اكتساب للمعارف والمهارات الضرورية في اقتصاد مجتمع المعرفة العالمي.
وهنا يختلف ما قامت به فنلندا حيث تم تحديد أسلوب التدريس الممتاز، ولم يقبلوا بمجرد التدريس اللائق أو المقبول فهناك لديهم معيار محدد للجودة في التدريس، ثانيا، قاموا بتحديد الأمور المهمة والتي يجب تعليمها وهي لا تتضمن منهاج التلقين والحفظ بل منهاجا يعتمد على التفكير ومحاكمة الأمور ولذلك فحتى في أغنى المدن الأمريكية لا نقترب من معيار النجاح والتميز العالمي. لنقل أننا بطريقة أو بأخرى قمنا بتنفيذ النموذج الفنلندي للتعليم في الولايات المتحدة، فما هي النتائج التي ستثمر بعد ذلك؟
هل سيكون حال الطلاب أفضل مع الأخذ بعين الاعتبار لك الفروقات الطبقية والعرقية والاقتصادية؟ سيستدعي الأمر عدة أجيال وأرى أنه علينا مواجهة هذه الفروقات الاقتصادية، لكنني زرت مدارس في مناطق فقيرة جدا مثل مدارس كيب kipp.org ، وهي مدارس مجانية للتحضير للمرحلة الجامعية وغالبيتها من الأمريكيين الأفارقة التي تشابه مدارس فنلندا في أنها حددت التميز العالي في التعليم والتعلم وأعتقد أنه يمكنك أن ترى من خلال نتائج هذه المدارس وكيف يتفوق طلابها في الجامعات بمعدلات أعلى من الطلاب البيض من الطبقة المتوسطة وكل ذلك بفضل التعليم الممتاز.
نعم إذا، العرق والطبقة تلعب دورا في الأداء التعليمي، وعلينا أن نواجه هذه القضايا ونعالجها ولا يمكننا أن نعتبر هذه النواحي عذرا لتبرير الإنجاز المتواضع للنظام التعليمي.
كيف ارتقت فنلندا بدور المعلم في عيون الناس لتصبح مهنة أكثر من مجرد مهنة محترمة بل مهنة تستحوذ على الإعجاب والتقدير فيما يتعرض المدرسون للتوبيخ والملامة بانتظام في الولايات المتحدة وكل الدول التي تعتمد على الامتحانات؟
ينظرون في فنلندا إلى المدرسين والمدرسات على أنهم علماء والصفوف على أنها مختبراتهم، ولذلك فكل مدرس يجب أن ينال درجة ماجستير، وليس أي شهادة ماجستير بل يجب أن تكون في مجال متخصص حول الإعداد الفكري في الصف، أما الناحية الثانية هنا فهي أنهم حددوا ما هي الاحترافية في مهنة التدريس على أنها العمل الجماعي والتعاوني بدرجة أكبر من العمل الفردي، حيث يمنح الأساتذة فسحة للعمل معا لتحسين المنهاج والدروس.
بينما يعود مستوى الاحتراف في النظام التعليمي الأمريكي للقرون الوسطى، حيث يعمل الأستاذ وحيدا طوال اليوم وكل يوم، لكن الوحدة هي عدو الابتكار والتطوير نحو الأفضل، وهو الأمر الذي أدركه الفنلنديون منذ وقت بعيد.
ويراد بالمحترفين في هذا السياق مواصفات محددة مثل اعتبار الشخص المعني خبيرا في مجال عمله ويتمتع بتوثيق لخبرته مع تمتعه باستقلالية وامتيازات في عمله الذي يؤديه بأعلى مستويات الجودة بما في ذلك اتخاذ قرارات معقدة مثل القدرة على إجراء محاكمة موضوعية للمسائل في ظروف عصيبة.
والمحترفون جديرون بحياة مريحة لكنهم لا يقتحمون مجال مهنة بغرض التكسب والنفوذ بل بدافع وجداني لتقديم العون والخدمة وعليهم التصرف بسلوك أخلاقي وقانوني وعند ارتكابهم الخطأ يجب أن يتحملوا المسؤولية ويتعلموا من ذلك الخطأ.
إرسال تعليق