إن قراءة التاريخ الإنساني على اختلاف الزمان والمكان تجعلنا نرى أن النزاع
قائم منذ الأزل بين الإنسان والإنسان. وهو نزاع يتجسد في أعلى صوره وأشدها
دموية في النزاع على السلطة. ولعل موضوع ميكيافيللي الذي أدرجناه سابقا يستطيع أن يعطينا لمحة موضوعية عن هذا الصراع المحموم حول السلطة، فكل من يملك سلطة يتعرض لانتقادات الآخرين،
وهو مستهدف ممن يريدون حيازة تلك السلطة بدلاً منه. إنّ ما تقدم يشكل حقيقة
تاريخية ثابتة على اختلاف أشكال السلطة وأنواعها في التاريخ الإنساني، ولعل أكثر أشكال السلطة إثارة للتنازع هي السلطة السياسية.
ومن
يملك السلطة السياسية يدخل في صراع مع منافسيه، فإما أن يحتفظ بها بعد
القضاء عليهم إلى حين يأتي سواهم، وإما أن يأخذوها منه بعد القضاء عليه إلى
أن يأتي من هو أقوى منهم فيأخذها منهم. وكل "من يتمتع بالقدر الكافي من
القوة والمكانة سيعمل على امتلاك السلطة، ويقدم على انتزاعها ممن يمسك بها.
إنّ النتائج يمكن استخلاصها بسهولة، ويؤيدها التاريخ، فتصبح السلطة مثار
نزاعات تنتهي بحروب تتجدد دائماً: السلب والنهب طلباً لمزيد من الثروة،
الفتوحات لتوسيع الأملاك، الإرهاب لفرض القوة، والغزوات الحربية لإظهار
الشجاعة بتوسيع مجال السيطرة، هذه كلها تصبح وسائل الوصول إلى السلطة".
ومن يملك السلطة السياسية بحاجة إلى نوع من المعارف يساعده في صراعه مع منافسيه و يمكنه من الاحتفاظ بها. وهي معارف تعطي السلطة نوعاً من الشرعية التي يقبلها المجتمع الذي يخضع لتلك السلطة، وترسّخ صورتها ولكن التاريخ الإنساني يبيّن أن أصحابَ السلطة غيرُ متفرغين لامتلاك هذا النوع من المعارف، وهم غالباً ليسوا، قبل استلامهم السلطة، ممن يملكون المعرفة التي تمكن صاحبها من اكتساب الاحترام والإجلال في الوسط الاجتماعي، وتجعله يهيمن على أفراده، فيسمعون رأيه، ويحتكمون إليه عند الحاجة، ويسلمون بما يصدر عنه، فهم بحاجة إليه لأنه يشكل مرجعاً، حياتياً ويومياً وعملياً لكافة أشكال العلاقات الإنسانية والاجتماعية والدينية والتاريخية والقضائية والمالية والروحية، يجدون لديه ردوداً على كل احتياجاتهم وتساؤلاتهم، وحلولاً لكل مشكلاتهم، ولذلك فإن أصحاب السلطة السياسية بحاجة إلى هؤلاء. وهذا يعني افتراض أن السلطتين في الأصل كانتا مجتمعتين لضرورة كل واحدة منهما للأخرى. ولكن ظروفاً مختلفة أدت إلى الفصل بينهما، وهو افتراض يحتاج إلى دراسة وتحقيق ليس هنا مكانهما.
وكما تتعدد أشكال السلطة السياسية وتختلف، فإن من يملكون المعرفة تتعدد أشكالهم المعرفية وتختلف، وهؤلاء تتنوع مواقفهم من السلطة من استجابة، ورفض، وحيادية، فالعلاقة بين الطرفين علاقة جدلية قائمة على مصلحة، ولذلك فهي تقوم على الصراع والمعارضة غالباً، وعلى الاتفاق في بعض الأحيان عند فئة من ممثلي المعرفة.
إنّ ما تقدم يمتدّ عبر التاريخ الإنساني برمّته، ويعود إلى المجتمعات البشرية الأولى، وهو موجود في كل فترات التاريخ ولدى مختلف أشكال الحضارات، ولذلك فإن الكلام عليه معقد وشائك للغاية، بسبب تنوع أشكال السلطة السياسية، وتعدد تفسيرات مصادرها، بالإضافة إلى تعدد أنواع المعارف واختلافها، وطبيعة مصادرها أيضاً، وسبل اكتسابها.
وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة فإن الدراسات المخصصة لها قليلة. وهي إنما تعود إلى العلوم الإنسانية الحديثة التي أسسها الغرب الأوربي في القرن التاسع عشر، وبدأت تعطي ثمارها في القرن العشرين، وفي مقدمتها علم الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم السياسة. أما قبل ذلك التاريخ فكان الأمر يقتصر على ملاحظات عامة أو صفحات في كتاب، ذات منحى نظري يكرس ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم عامة ومن وجهة نظر مثالية في الغالب، ولا ينطلق من مراقبة الواقع كما هو عليه.
وفي المجتمعات المعاصرة نجد أن المسألة قد حسمت في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول العالم الأخرى، إذ أصبح الاهتمام موجهاً إلى آلية انتقال السلطة وممارستها من خلال مؤسسات سياسية وثقافية. وما عدنا نسمع عن السلطة الثقافية باعتبارها جهة تشريعية، أو تهب الشرعية للسلطة السياسية أو توطد وجودها. فقد استطاع النقد الفلسفي - الاجتماعي ا المعاصر والواقع العملي أن يُسقطا من الفكر السياسي مفاهيم الحق الإلهي في الحكم أو السلطة المطلقة عند الغربيين ووَحَّدا بذلك بين السلطتين بحسب معايير خاصة بكل مجتمع من المجتمعات الغربية. أما في باقي دول العالم فإن الأمر مختلف من بلد إلى آخر، ونعتقد أنّ بإمكاننا تقسيم تلك الدول إلى نوعين: الأول سادت فيه أنظمة علمانية وسكانه لا مرجعية دينية سماوية لهم، أو مرجعيتهم سماوية إلا أنها لا تبين لهم أمر السلطة السياسية، والثاني سادت فيه أنظمة علمانية أو ليست كذلك، ولسكانه مرجعية دينية سماوية تحدد لهم طبيعة العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية، ونقصد بذلك البلاد التي تدين بالإسلام، وخاصة الوطن العربي.
في هذه البلاد لا توجد دراسات حول هذا الموضوع، وما وجد منها، على قلته، خاضع لتأثيرات ثقافية أجنبية، لا تنطلق من الواقع الثقافي الاجتماعي التاريخي في تلك البلاد. ونعتقد أن المشكلة القائمة في هذه البلاد بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية في أصل كل المشاكل التي يعانيها الوطن العربي، وهي مشاكل متنوعة تشمل كل المجالات: الاقتصادية والعلمية والتربوية والاجتماعية والتنموية والثقافية والسياسية.
إن الطرح السابق يعني أننا نعتقد بأن الدين هو الذي يقف في أساس العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية على اختلاف مصدر الدين، وهو اعتقاد يؤدي إلى إثارة مشكلة هي في اعتقادنا جوهر القضية برمتها: ما مصدر السلطة؟ .. فمَنْ أو ما الذي يعطي إنساناً ما سلطة ما على أخيه الإنسان؟ ونحن نعتقد في هذا المجال أن أسّ القضية يقوم على أن لا سلطة لإنسان على آخر إلا بدليل يمكنه من ذلك. وأن مراقبة تاريخ البشرية على اختلاف الزمان والمكان يبين لنا أن هذا الدليل كان دينياً في بداياته عند كل المجتمعات. ففي بدايات التاريخ نجد أن السلطة السياسية كانت مقدسة، ويلفها الغموض، وهو ما كان يعطيها فعلاً سحرياً وأثراً عميقاً في نفوس رعاياها. وبذلك نرى أن المقدس هو أحد الأبعاد المختلفة للنشاط السياسي، فالدين يمكن أن يكون أداة سلطة تحقق من خلاله شرعيتها واستقرارها، وتستخدمه في نزاعاتها السياسية مع خصومها، وتكرس كل أنواع العبادات والطقوس بما في ذلك الخرافات، في سبيل تثبيت شرعيتها، وضمان استمرار وجودها.
هل السلطة تغير الإنسان؟ |
ومن يملك السلطة السياسية بحاجة إلى نوع من المعارف يساعده في صراعه مع منافسيه و يمكنه من الاحتفاظ بها. وهي معارف تعطي السلطة نوعاً من الشرعية التي يقبلها المجتمع الذي يخضع لتلك السلطة، وترسّخ صورتها ولكن التاريخ الإنساني يبيّن أن أصحابَ السلطة غيرُ متفرغين لامتلاك هذا النوع من المعارف، وهم غالباً ليسوا، قبل استلامهم السلطة، ممن يملكون المعرفة التي تمكن صاحبها من اكتساب الاحترام والإجلال في الوسط الاجتماعي، وتجعله يهيمن على أفراده، فيسمعون رأيه، ويحتكمون إليه عند الحاجة، ويسلمون بما يصدر عنه، فهم بحاجة إليه لأنه يشكل مرجعاً، حياتياً ويومياً وعملياً لكافة أشكال العلاقات الإنسانية والاجتماعية والدينية والتاريخية والقضائية والمالية والروحية، يجدون لديه ردوداً على كل احتياجاتهم وتساؤلاتهم، وحلولاً لكل مشكلاتهم، ولذلك فإن أصحاب السلطة السياسية بحاجة إلى هؤلاء. وهذا يعني افتراض أن السلطتين في الأصل كانتا مجتمعتين لضرورة كل واحدة منهما للأخرى. ولكن ظروفاً مختلفة أدت إلى الفصل بينهما، وهو افتراض يحتاج إلى دراسة وتحقيق ليس هنا مكانهما.
وكما تتعدد أشكال السلطة السياسية وتختلف، فإن من يملكون المعرفة تتعدد أشكالهم المعرفية وتختلف، وهؤلاء تتنوع مواقفهم من السلطة من استجابة، ورفض، وحيادية، فالعلاقة بين الطرفين علاقة جدلية قائمة على مصلحة، ولذلك فهي تقوم على الصراع والمعارضة غالباً، وعلى الاتفاق في بعض الأحيان عند فئة من ممثلي المعرفة.
إنّ ما تقدم يمتدّ عبر التاريخ الإنساني برمّته، ويعود إلى المجتمعات البشرية الأولى، وهو موجود في كل فترات التاريخ ولدى مختلف أشكال الحضارات، ولذلك فإن الكلام عليه معقد وشائك للغاية، بسبب تنوع أشكال السلطة السياسية، وتعدد تفسيرات مصادرها، بالإضافة إلى تعدد أنواع المعارف واختلافها، وطبيعة مصادرها أيضاً، وسبل اكتسابها.
وعلى الرغم من أهمية هذه المسألة فإن الدراسات المخصصة لها قليلة. وهي إنما تعود إلى العلوم الإنسانية الحديثة التي أسسها الغرب الأوربي في القرن التاسع عشر، وبدأت تعطي ثمارها في القرن العشرين، وفي مقدمتها علم الأنثروبولوجيا الثقافية وعلم السياسة. أما قبل ذلك التاريخ فكان الأمر يقتصر على ملاحظات عامة أو صفحات في كتاب، ذات منحى نظري يكرس ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم عامة ومن وجهة نظر مثالية في الغالب، ولا ينطلق من مراقبة الواقع كما هو عليه.
وفي المجتمعات المعاصرة نجد أن المسألة قد حسمت في الغرب الأوربي والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول العالم الأخرى، إذ أصبح الاهتمام موجهاً إلى آلية انتقال السلطة وممارستها من خلال مؤسسات سياسية وثقافية. وما عدنا نسمع عن السلطة الثقافية باعتبارها جهة تشريعية، أو تهب الشرعية للسلطة السياسية أو توطد وجودها. فقد استطاع النقد الفلسفي - الاجتماعي ا المعاصر والواقع العملي أن يُسقطا من الفكر السياسي مفاهيم الحق الإلهي في الحكم أو السلطة المطلقة عند الغربيين ووَحَّدا بذلك بين السلطتين بحسب معايير خاصة بكل مجتمع من المجتمعات الغربية. أما في باقي دول العالم فإن الأمر مختلف من بلد إلى آخر، ونعتقد أنّ بإمكاننا تقسيم تلك الدول إلى نوعين: الأول سادت فيه أنظمة علمانية وسكانه لا مرجعية دينية سماوية لهم، أو مرجعيتهم سماوية إلا أنها لا تبين لهم أمر السلطة السياسية، والثاني سادت فيه أنظمة علمانية أو ليست كذلك، ولسكانه مرجعية دينية سماوية تحدد لهم طبيعة العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية، ونقصد بذلك البلاد التي تدين بالإسلام، وخاصة الوطن العربي.
في هذه البلاد لا توجد دراسات حول هذا الموضوع، وما وجد منها، على قلته، خاضع لتأثيرات ثقافية أجنبية، لا تنطلق من الواقع الثقافي الاجتماعي التاريخي في تلك البلاد. ونعتقد أن المشكلة القائمة في هذه البلاد بين السلطة السياسية والسلطة الثقافية في أصل كل المشاكل التي يعانيها الوطن العربي، وهي مشاكل متنوعة تشمل كل المجالات: الاقتصادية والعلمية والتربوية والاجتماعية والتنموية والثقافية والسياسية.
إن الطرح السابق يعني أننا نعتقد بأن الدين هو الذي يقف في أساس العلاقة بين السلطتين السياسية والثقافية على اختلاف مصدر الدين، وهو اعتقاد يؤدي إلى إثارة مشكلة هي في اعتقادنا جوهر القضية برمتها: ما مصدر السلطة؟ .. فمَنْ أو ما الذي يعطي إنساناً ما سلطة ما على أخيه الإنسان؟ ونحن نعتقد في هذا المجال أن أسّ القضية يقوم على أن لا سلطة لإنسان على آخر إلا بدليل يمكنه من ذلك. وأن مراقبة تاريخ البشرية على اختلاف الزمان والمكان يبين لنا أن هذا الدليل كان دينياً في بداياته عند كل المجتمعات. ففي بدايات التاريخ نجد أن السلطة السياسية كانت مقدسة، ويلفها الغموض، وهو ما كان يعطيها فعلاً سحرياً وأثراً عميقاً في نفوس رعاياها. وبذلك نرى أن المقدس هو أحد الأبعاد المختلفة للنشاط السياسي، فالدين يمكن أن يكون أداة سلطة تحقق من خلاله شرعيتها واستقرارها، وتستخدمه في نزاعاتها السياسية مع خصومها، وتكرس كل أنواع العبادات والطقوس بما في ذلك الخرافات، في سبيل تثبيت شرعيتها، وضمان استمرار وجودها.
المرجع:
كتاب الإنسان والسلطة للدكتورحسين صديق
كتاب الإنسان والسلطة للدكتورحسين صديق
إرسال تعليق