أبو حامد الغزالي رحمة الله عليه , حجة الإسلام ,العالم المتصوف والفيلسوف, العارف بالله ,بلغ مرتبة العلماء وجاوزها. حباه الله ببصيرة نافذة ,ولغة بليغة فصيحة قدم لنا وصفا رائعا وناذرا للجنة و نعمها في كتابه الشهير إحياء علوم الدين ,جعلني الله وإياكم من نازليها .
"اعلم أن تلك الدار التى عرفت همومها وغمومها تقابلها دار أخرى. فتأمل نعيمها وسرورها فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة فى الأخرى فاستثر الخوف من قلبك بطول الفكر فى أهوال الجحيم, واستثر الرجاء بطول الفكر فى النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان وسق نفسك بسوط الخوف وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم فتفكر فى أهل الجنة وفى وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر الياقوت الأحمر فى خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقرى الأخضر.
متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر والعسل محفوفة بالغلمان والولدان مزينة بالحور العين من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان ,لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان يمشين في درجات الجنان ,إذا اختالت إحداهن فى مشيها حمل أعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها من طرائف الحرير الأبيض.
ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ والمرجان شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات فى الخيام فى قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان قاصرات الطرف عين ثم يطاف عليهم وعليهن بأكواب وأباريق وكأس من معين بيضاء لذة للشاربين, ويطوف عليهم خدام وولدان كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون فى مقام أمين فى جنات وعيون فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر .ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت فى وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم فتر ولا ذلة بل عباد مكرمون وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهيت أنفسهم خالدون لا يخافون فيها ولا يحزنون وهم من ريب المنون آمنون فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبنا وخمرا وعسلا فى أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران .
ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور ويؤتون بأكواب ,وأى أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر والياقوت والمرجان كوب فيه من الرحيق المختوم ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره يبدو الشراب من ورائه برقته وحمرته لم يصنعه آدمى. فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته فى كف خادم يحاكي ضياء وجهه الشمس فى إشراقها .ولكن من أين للشمس حلاوة مثل حلاوة صورته وحسن أصداغه وملاحة أحداقه .
فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها ويوقن بأنه لا يموت أهلها ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله فى خرابها ويتهنأ بعيش دونها والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان .يقول أصحاب الجحيم ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى الخروج من سبيل فيقول الله تعالى مجيبا لهم ذلكم, بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلى الكبير.
ثم يقولون ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل فيجيبهم الله تعالى أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال فيقولون ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل به ,فيجيبهم الله تعالى أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير ثم يقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها .فإن عدنا فإنا ظالمون فيجيبهم الله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون فلا يتكلمون بعدها أبدا وذلك غاية شدة العذاب قال مالك بن أنس رضى الله عنه قال زيد بن أسلم فى قوله تعالى سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص قال صبروا مائة سنة ثم جزعوا مائة سنة ثم صبروا مائة سنة ثم قالوا سواء علينا أجزعنا أم صبرنا وقال صلى الله عليه وسلم يؤتى بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ويقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت ".
إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي رحمه الله
إرسال تعليق