جاء في تقرير لمنظمة اليونسكو أن الإنسان يحصل على معلوماته بنسبة 90% عن طريق النظر وبنسبة 8% عن طريق السمع، وأن العين تجذبها الحركة أكثر من أي شيء آخر.
كما أن أكبر مستحوذ للصورة في عالم الاتصال هو التلفزيون أو التلفاز، بحيث له خاصية لا تتوافر لغيره من وسائل الإعلام، وهي مخاطبة العين والأذن في نفس الآن بالصورة والصوت والحركة.
الطفل والتلفزيون |
وتعتبر الصورة السند الأساسي للرسالة التلفزيونية، وهي تتوجه إلى الأميين والأطفال الذين يجهلون القراءة والكتابة، بحيث يستطيع هذا الجهاز توصيل خطابه بالصورة التي لا تحتاج إلى اكتساب آليات وميكانيزمات ذهنية عالية لتحليله، فالصورة تقول كل شيء في لقطة، في ثانية، يكفي أن ينطلق فيضها لتجد مكانها في ذهن وعقول الأطفال التي من طبيعتها البيولوجية أنها تتفتح على العالم من حولها ببطء شديد يسمح لها بـ التعلم والتشكل، هذا التشكل وإن كان يتسم بالتباطؤ - وهنا الخطورة - لأن الطفل يتأثر بالصورة / الخطاب ويحاول - بدرجات مختلفة - التماهي بشخصياتها ومحاولة الوصول إلى النموذج / الآخر.
والتلفزيون بقدرته على جذب الانتباه بتركيزه على دقائق الأمور من خلال الصورة الحية المجسمة بالدرجة الأولى ثم الحركة، تجعل منه أكبر مستقطب لعقول الصغار وأكبر مساهم فعلي في صناعة المستقبل باعتباره ذا قدرة تأثيرية ووسيلة فعالة للثقافة والتعليم والإرشاد والتوجيه فضلا عن كونه وسيلة للتسلية والترفيه.
والأسئلة التي تفرض نفسه بإلحاح في هذا المجال هي:
- هل قام التلفزيون العربي فعلا بواجبه في دعم الثقافة العربية والإسلامية وعقلنة التعليم والتوجيه في أجواء تسيطر عليها الصورة الغربية؟
- هل يتمم ويساند التلفزيون عمل المؤسسات المجتمعية الأخرى حيال الأطفال؟
- هل أدرك التلفزيون والقيمون عليه الدور الخطير الذي يلعبه في عملية التنشئة الاجتماعية؟
- هل أحسن التلفزيون استغلال سلطانه للوقوف أمام تحدي الصورة الغربية وتدعيم الشخصية العربية والإسلامية؟
بين الصورة والنص
يقول بيار مارتينو:
للصورة ميزة بالنسبة للنص، فهي تنقل الرسالة فورا في حين أن الكلمات تتتابع وتتسلسل. ليس ممكنا أن تلفظ مجموعة من الكلمات في آن، الكلمات تتسلسل تبعا لنظام محدد، في حين أن رسالة الصورة تظهر منذ النظرة الأولى إليها.من هنا تتضح أهمية وخطورة الصورة، فهي خطاب لا يحتاج إلى خبرة كبيرة، ولا إلى ضرورة امتلاك ميكانيزمات تحليله لكي يُفهم، بل إنه يصل إلى المتلقي مباشرة وبدون وساطة، يكفي أن يوظف اللون والرمز والحركات في مصاحبة مركزة للإيقاع، ليؤثر في الطفل والراشد الأمي.
أما النص، فيحتاج إلى خبرة لتحليل خطابه، واستيعاب مضمونه، إضافة إلى أن خطاب النص يتوجه إلى فئة معينة ممن يمتلكون آليات التحليل، لذا فالنص تخضع رسالته / خطابه لوساطة، بينما الصورة، فلا تحتاج نسبيا لوساطة.
سلطان الصورة
للصورة سلطان تبسطه من خلال التلفزيون لأنه الأقرب إلى المتلقي ولأنه ميدان الصورة بامتياز، تنقله من خلال البرامج ولوحات الإشهار أو المجلات وغيرها، مستخدمة في ذلك اللون والحركة والإيقاع التي تفعل فعلها في أذهان الأطفال - على الخصوص - الذين يتأثرون بها إلى حد التماهي بأبطالها الذين يصبحون مع مرور الزمن قدوة ونموذجا يضاهون حركاتها وتصرفاتها.
والتلفزيون بامتلاكه لهذا السلطان متأهب على الدوام للسيطرة على حركة الأطفال، وتجميدهم بلمسة سحرية سهلة وبسيطة من أصبع على زر من أزراره لينطلق فيضان من الصور والحركات تسليهم وتحطم أعصابهم لساعات قد تطول فيندمج مع الفيلم أو البرنامج، أو يسقط تحت سيطرة الإغراءات المادية أو يطير إلى عالم من الأحلام والمغامرات والرغبة في الامتلاك والنجاح والتواكل وهو يتابع بحرص شديد أبطال الفيلم أو البرنامج أو حصة الإعلانات الإشهارية التي لا تفوته والتي كثيرا ما يستمتع بها بدرجة تفوق تصور الكبار.
عنف الصور وخيال الطفل
يتمتع الطفل بخيال واسع لا يقف به عند حد، ويخضع الدنيا لخياله، فيحيل العصا دراجة أو حصانا، والكرسي قطارا، ويلبس الوسادة روحا فتصير كائنا يتجاذب معها أطراف الحديث.
وإذا كان الخيال هو تجريد الأشياء من خواصها الملموسة أي رفعها إلى مستوى التجريد، فالطفل يصنع من اللاشيء أشياء يسميها مرة بأسمائها ومرات بأسماء من صنع خياله اللامحدود.
من هنا، وانطلاقا من الفضاء الرحب لخيال الطفل، تبدأ الصورة في بسط سلطانها وتشكيله في مسلسلات العنف المغلف بالخيال، فحين يجلس الأطفال بكامل عفويتهم وقابليتهم للتلقي لمشاهدة حلقات من مسلسلات الرسوم المتحركة من نوع - كراندايزر - أو - طوم وجيري - أو - المصارعون - ... يسقط عليهم فيض من الصور التي لا تنتهي والتي تعج بالمواقف الحاسمة والصراعات المتبادلة والشخصيات الغريبة، وضمن هدير لا يتوقف من الموسيقى الصاخبة التي تهيج الأعصاب وتصدع الرأس، تضيف إلى العنف عنفا وإلى التغريب تغريبا، فلا يفيق الأطفال من هذا الكابوس إلا وقد تحطمت أعصابهم وانبهرت عيونهم وصمت آذانهم، ودخلوا مع بعضهم في حلقة من التماهيات، هذا يريد أن يكون البطل وذاك الشرير، والآخر يتحول إلى سيارة أو طائرة أو قطار ... ويعاد الفيلم من جديد لينقلب البيت ساحة قتال وعراك بالوسائد والكراسي والكتب ... ولكي يعود البيت إلى وضعه الطبيعي يدار الزر من جديد ليتدفق شلال آخر من الصور المتحركة، ليصبح التلفزيون أداة في يد الآباء يشترون به سكوت أبنائهم وهدوئهم، إذ ما تنطلق الصورة تباعا حتى تبهرهم بعالمها السحري وشخوصها العجيبة فيركنوا إلى الهدوء والخمول.
وهنا نطرح هذا السؤال: هل في هذا التماهي خطر على الأطفال؟
يقول العالم النفسي فريدمان:
إن إدمان مشاهدة التلفاز مثلها مثل أي سلوك غير مرغوب فيه هي المقابل الذي يعوض به الطفل ما يحس به من نقص في مجتمعات الأسرة والمدرسة والأصدقاء.إن الإفراط في مشاهدة التلفاز إلى حد الإدمان، رد فعل مؤقت للأطفال تجاه بيئتهم التي لا تهيء لهم أسباب إشباع رغباتهم وميولاتهم بحيث تعجز المؤسسات المجتمعية كالمدرسة والصحافة ودور الشباب والمخيمات... في التقرب من هموم الأطفال وتفجير طاقاتهم وتسخيرها لصالح المجتمع لتكون مصدرا فاعلا من مصادر صناعة المستقبل، يبقى للتلفزيون السلطة الكبرى والكلمة الأخيرة في اجتلاب انتباه الأطفال والسيطرة على حواسهم وخيالهم وبالتالي توجيههم والتأثير فيهم والدفع بهم إلى أحلام اليقظة في محاولات لمحاكاة الأدوار الخيالية التي تفرزها الصور التلفزيونية من خلال التماهي بشخصياتها والتي تدعو - في كثير من الأحيان - إلى التواكل والاعتماد على الخوارق والعفاريت للحصول على مبتغى صعب المنال واقعيا، أو تدفعهم إلى الانتحار أو ارتكاب الجريمة أو تقليد البطل الذي يضرب، يقتل، يطير، يطلق الرصاص ويقضي على خصمه بكل الوسائل: القوة، المكر، الخداع. وهذا هو الجانب الخطير للتلفزيون والذي لا ينتبه إليه الكثير منا، وهو غير سليم مائة بالمائة وغير محايد إيديولوجيا في مخاطبة عقول الأطفال.
وليس معنى هذا أن التلفزيون من الوسائل التي نخشاها مائة بالمائة، ولكل شيء جانبه الحسن، والتلفزيون سلاح ذو حدين، إذا لم نحسن استعماله على الوجه الأكمل انقلب إلى الضد ليهدد بذلك صناعة المستقبل، لذا فهو في حاجة ماسة وملحة إلى فهم كامل لرسالته أولا وتقويم برامجه بوجه عام وبرامج الأطفال بوجه خاص ثانيا.
نعم للتلفزيون .. ولكن!
لا يعني مما تقدم إجحاف في حق التلفزيون أو الوالد الثالث كما يسميه آخرون، فهو إلى جانب التسلية والترفيه يساهم في مسؤولية إعداد وتربية أبنائنا وتهييئهم للمساهمة في صناعة المستقبل، ودفعهم لهذه الصناعة عن طريق المعرفة، لأن عقل الإنسان في بدايته يبدأ طريق المعرفة بالاندهاش، فإن دهشة الصغار تبدأ بهذا الصندوق الذي يقدم لهم الحياة، ومع استمرار الدهشة والانبهار، يتقدم عقل الطفل إلى مراحل المحاكاة والتقليد والتلقين والتعلم، إلى أن نجد الطفل في النهاية قد تشكلت شخصيته وثقافته، والتلفزيون هو العامل الرئيسي في هذا التكوين.
وطبعا هذا إذا استغل التلفزيون سلطانه بكيفية سليمة.
المرجع: مجلة آفاق
العدد: 11/1996
إرسال تعليق