إن أهم ما يشغلنا ويحرك فينا الإحساس بالذات، الذي بدأ يضؤل ويقل لدى الأجيال المعاصرة، يتجلى في السؤال التالي: هل يمكن إرجاع جذور المعتزلة إلى الصراعات التي احتدت وطأتها في العقود الإسلامية الأولى؟ والتي ظهرت فيها أحداث مفجعة، هزت المسلمين، وقضت مضاجعهم كموقعة الجمل وصفين ونهروان، مما أدى إلى ظهور بيئات تتباين مشاربها سياسيا، وثقافيا، واجتماعيا، من شيعة وخوارج ومرجئة، وبالتالي في أي إطار يتموقعون؟ أيمتلكون فعلا اتجاها يشكلون في نشأتهم بذور نزعة عقائدية / ثقافية تبدو في وهلتها الأولى في غاية البساطة والصفاء الإيماني؟ أم يشكلون نزعة تحمل وتجسد شرارة ثورة فكر خلاق إسلامي أخاذ يحمل أبعادا فلسفية كما يؤكده 'مونتكوميري' 'وات' أم ماذا؟
المعتزلة وأسباب ظهورهم |
ومهما تضاربت الآراء وتباينت عند هؤلاء وأولئك، فقد انبثق من تلك الصراعات تصادم ذو أبعاد خطيرة تولد عنه نقلة جديدة، ترجمها واقعيا ظهور بنية فلسفية عقلانية؛ تجاوزت المستوى الإرهاصي، لأنها فيما نخال ليست صدفة ولا توسمت بأي اعتباط، بل هي نتاج مخاض مجتمعها، وثمرة عصارتها، ولأنها لا تنبت من الأرض كما تنبت النباتات، وهذا لا ينفي المقولة التي تقول 'بالتأثير والتأثر' وعلى أي، فقد اكتسحت الواقع المجتمع يومئذ، واستطاعت أن تبسط فكرها ... وتمكنت من أن تتسرب إلى مقاليد الدولة، بل تسللت إلى مراكز القرار، وبخاصة في عهد 'المأمون والمعتصم والواثق'... لقد كانت هذه البيئة حقا مجمعا للعلم، وحقلا لفكر سرمدي، شغل بال المختصين في مختلف البحوثات، تلتقي حولها كل البيئات التي تختلف في اتجاهاتها الثقافية والفكرية والعقائدية... مما ترك في العقلية الإسلامية صدى عميقا في العقل والحس، ويتجه 'تيزيني' إلى أنها بنت مخاض لعوامل اقتصادية / اجتماعية / زراعية / سياسية، مما يجعلنا نعتقد أن الإسلام ليس عقيدة دينية فحسب، بل حركة اجتماعية ثقافية، تطفو آونة وترسب آونة أخرى، فهي شبيهة في تحركاتها وتموجاتها بالبحر الذي يتسم بسمات المد والجزر، كدلالة وكقوة فاعلة، وإن كانت تتسم بطابع ميتافيزيقي لاهوتي، ولكن هذا لا ينفي ظهور بوادر العلوم الطبيعية، والكميائية والرياضية، وبخاصة ما قام به حذاقو العرب الأربعة من ترجمة لمختلف الفكر الإنساني، الذي ظهرت آثاره في إنتاج المعتزلة.
وبديهي أن من خصائص العصر الوسيط، ظهور الفكر الجدلي، واللاهوتي، كالخلق من العدم المطلق، والعلاقة الجدلية بين الإنسان وبين ربه، وبين مجتمعه، الذي يطل على أنطروبولوجية وبين القدرية والجبرية، وعلاقات الصفات بالذات الإلهية، وكنتيجة حتمية لظهور هذه الصراعات، وسط خضم هذه الإيديولوجيات، وما تقتضيه حتمية الضرورة للدفاع عن الدين الإسلامي، وما يتهدده في ذاته ووجوده، بعقلية جديدة متشبعة بروح العلم الذي يضيف العقل للنقل؛ ظهر المعتزلة ليحملوا لواء الفكر المعقلن، ويشقوا نورا وثقافة تكون في مستوى المقارعة والمواجهة للتيارات التي تغلغل بها منطقة شرق أوسطية، فـظهورالمعتزلة لم يتم بالمصادفة أو بالاعتباط الزمني، وإنما ثمرة حضارية وعصارة مجتمعية، كما يؤكده 'مروة' في 'نزعات المادية'، ومن حسن حظهم أن تسوسهم وتؤطرهم ثلة تعتبر آنئذ 'الانتلجانسيا للمجتمع الإسلامي' كالعلاف، والنظام، والجاحظ والزمخشري والكسائي، وتمامة ابن الأشرس، وبشر بن المعتمد، وعلى رأس هؤلاء وأولئك، رائدهم 'الحسن البصري' و'واصل بن عطاء' و'عمرو بن عبيد' وقد كانت الروابط الروحية والثقافية والدينية تجمعهم وتربط أواصرهم خدمة لتأدية الرسالة بتماسك وترابط معقلنين؛ مما رد للفكر الإسلامي اعتباره، بالرغم من التحاملات والترهات، التي يلصقها بهم البعض فهم لا يحيدون عن العقيدة الصحيحة، وإنما ينزعون للفلسفة كسلاح في تنظيراتهم ومواجهاتهم للفكر المضاد، من زرادشتية ومزدكية ويهودية ومسيحية ومانوية، دفاعا عن الدين؛ ولا نكون مغالين إذا قلنا بأن تنظيراتهم آنئذ، كان لها السبق على تأسيس النظام الأكاديمي العربي قبل القرن الثالث عشر الميلادي كجامعة باريس واكسفورد وكامبريدج وغيرها... التي يتردد صداها، وتصطخب أصواتها بالفكر الاعتزالي، برجالاته وتأويلاته، ورواده... وتعتبر مصادر المعتزلة من أقوى المرجعيات العلمية بما تحمله من تنوع فكري أخاذ، مدعم بقوة البرهنة والاستدلالية، التي اعتبرت من خصائص الفلسفة، وليس بوسع أي كان الالتجاء إليها... تلك بداية ظهورهم والبدء عظيم كما يقول 'هيدغر'، وإذا أبرزنا مجموعة من العوامل، التي أدت إلى ظهور هذه النخبة التي أغنت الفكر الإنساني في الوقت الذي ساد فيه الظلام، وأرخى سدوله على المجتمع الأوربي، فإن من الأهم أن نحاول البحث عن المبررات الأساسية التي قد تتداخل ويتشابك بعضها ببعض في الطرح، إغناء للفكر وتماشيا مع التحليل.
فبعد اتساع الرقعة الإسلامية، وركود الفتوحات، التي استنفذت غايتها، وتغيرت معالم الحياة المجتمعية، وتطورت سبل العيش، واستقرت الأحوال، كان ولابد من بروز مشكلات ثقافية / معرفية / فكرية / اجتماعية، اشتد أوارها، وطغت على الأفق وبخاصة الفكر الديني، الذي أثار جدلا عنيفا في الساحة، لازلنا نعاني منه الآن، وقد اهتم به ثلة من المثقفين الحداثيون، فأفاضوا واستفاضوا في تحليلات أبعاده، التي تحولت بالأسف إلى إيديولوجية مبطنة لحاجة في نفس يعقوب، وقد انفلق صبح بعض من تلك المشكلات، وتفجرت بسبب قضية طغت على السطح الديني، كقضية مجرم الأمة، ومرتكب الكبيرة، أو نشأة الفكر السياسي الإسلامي، كقتل عثمان، واحتدام الخلاف بين علي ومعاوية، وبين علي وعائشة، أدت إلى صراعات واصطدامات دموية، مما أثار انشقاقا وتمزقا في المجتمع، إضافة إلى وقعة الجمل، ووقعة صفين، كان من نتائجها نشوب خصومات وقته نتيجة قبول التحكيم الذي بنيت أسسه على خدعة وفكر وتناور سياسي، مما أدى إلى ضعف وانقسام طالما نخر عظام المجتمع الإسلامي، وهز كيانه وبدد قوته، وأجج أوار التناحر والاقتتال والفرقة بين مختلف الفئات المجتمعية، وما إفراز بعض الفرق الإسلامية إلا مظهرا من مظاهر ذلك الإنقسام.
إن تلك العوامل هي التي شكلت وتشكل معالم التحرك والتغيير التي أنتجت 'انتلجانسيا' كنخبوية فكرية ثقافية، تستطيع القيام بالدفاع عن الدين ضد أعدائه الذين يتربصون به... وفعلا تسلحت بأنواع الثقافة والفلسفة، وتمكنت فيها تمكنا عمليا، أتاح لها إمكانية المقارعة والمواجهة، بما يسكت النفوس، ويحرج العقول.
انطلاقا من هذه المعطيات، كان ولابد من طرح السؤال التالي:
ما هي المبررات والأسباب التي أدت إلى ظهور المعتزلة؟
إن هذه الأسباب سنجملها كما يلي:
الرغبة في حل تلكم المشكلات
الرغبة في حل تلكم المشكلات بكل مناحيها ومضامينها، وعلى مستوى تناقضاتها وتعدد مفاهيمها... ولإبراز الهدف من ظهور الفكر الاعتزالي، لأن أثر الديانات الأخرى لواضح وضوح الشمس، ذلك أنه على إثر التمازج بين البيئات والحضارات من فارسية ورومانية وهندية، ومسيحية، لاسيما أن كل بيئة لها ثقافتها المتميزة، وإذا علمنا بتأسيس بعض المدارس المسيحية في سوريا ومصر ومثيلات لها بالعراق، إضافة إلى يهودية ومجوسية وفرق متباينة تعاكس في جوهرها الدين الإسلامي، كمزدكية، ومانوية... أدركنا مدى الخطورة التي تحذق بالعقيدة الإسلامية، وهذا كاف وحده لإعداد العدة لمقاومة الفكر المضاد الذي يحاول استعادة المجد المفقود نتيجة الغلبة والتفوق.
الدفاع عن الدين
وهذا ما جعل المعتزلة يتحركون قدما إلى الأمام بعد أن تسلحوا بكل أنواع الثقافات المفروضة على الساحة، فانبروا يدافعون بقوة علمهم الجديد ضد هؤلاء، بما أتوا من أدلة ذات إرهاصات فلسفية، وإن كانت أحيانا تتسم باللاهوتية وعلى أي؛ فقد اعترفوا واغترفوا من مناهلها. إن المستشرق 'ليبرج' و'اير' يؤكدان بأن تأثير المسيحية في الفكر الاعتزالي أكثر من غيره، كما يؤكد 'ميكفرت' أن اللاهوت المسيحي بلغ ذروته آنئذ.
إن بحث المعتزلة في اللاهوتية التي أثارتها الديانات الأخرى المتعددة الاتجاهات، ودراستهم لعمقها جعلتهم يقفون على الحقيقة المزعجة، فقاموا واستشحذوا قرائحهم استعدادا لتلقف أنواع الفكر السائد في الساحة.
أثر الديانات
وبديهي أنه لا يمكن نشر هذه المدارس المشيدة على الساحة الإسلامية والفرق المتعددة التي لم تألوا جهدا في استيعاب أنواع الثقافات والتراكمات الفلسفية دون أن يتأثر المعتزلة بذلك، ودون أن تترك فيهم نافذة وهيمنة فكرية عظيمة، وطبيعي أن السلف لا يقر الجدل في أمور الدين، ولا يحتمل المناقشة، لأن الدين عند السلف مجرد إيمان قائم على النقل، مما جعل المعتزلة يتسلحون بالجرأة الفكرية للدفاع عنه بأقوى سلاح لا يقل عن سلاح المستشرقين الذين يتربصون به.
الفلسفة وتأثيرها في الفكر الاعتزالي
مما لا جدال فيه أن المعتزلة ألفوا مؤلفات للرد على 'الجهمية' و'الرافضية' و'الثنوية' وكل المعتقدات المجوسية، وحينما أخذ هؤلاء على عاتقهم مهمة الدفاع عن الدين تبين لهم بادئ ذي بدء، أن خصومهم أقوى منهم سلاحا، وأمضى منهم لسانا، وأقدر عليهم ثقافة نتيجة حضارتهم العريقة، إذ كان لهم باع طويل في الفلسفة ومختلف العلوم العقلية، واطلاع واسع على مختلف ميادين الفكر البشري، فمصر وسوريا خاضعتان للدولة الرومانية آنئذ، ويكفي أن نعرف جيدا أن هناك مؤسسات ثقافية لإشباع حركة لاهوتية كمؤسسة جنديسابور / والرها / ونصيبين / قنسرين / ويذكر الشهرستاني، أن أول معتزل استفاد من نتاج ثقافة هؤلاء هو 'النظام' أستاذ الجاحظ وتلميذه 'العلاف'. ويقول المستشرق 'لنيبرج' أن المعتزلة قد قاموا بأشد ما احتاج إليه الإسلام. وإن الهدف الذي يرمي إليه المعتزلة في الفلسفة هو استخدامها للرد على خصومهم، ولذلك فقد أحدثت الفلسفة لدى المعتزلة انقلابا خطيرا على عقليتهم، كما أحدثت في فكرهم ثورة عنيفة، وبدأوا ينظرون إليها، وإلى فلاسفتها في مرتبة أسمى لأنهم حاملوا شعاع العلم الذي بدونه لن تتمكن البشرية من تشييد حضارتها، ويقول 'أوليري':
الفلسفة مكملة لتعاليم دين المعتزلةومن هنا بدأوا يفكرون في التوفيق بين الدين والفلسفة، هذه المشكلة التي شغلت حيزا كبيرا في فكر الفيلسوف 'ابن رشد' كما أخذت اهتمامات الفيلسوف 'الفارابي' حسبما يؤكده الدكتور عابد الجابري في دراساته لمشروع 'قراءة جديدة في فلسفة الفارابي' ومن هنا ندرك أهمية تهافت المعتزلة على الفلسفة، والتي لم تأخذ بعد استقلالها التام عن اللاهوتية كما وضحه الدكتور حسين مروة.
ومن الدلالة القيمة على تأثير الفكر اليوناني في المعتزلة ما أثبته 'شتينر' من أن الاعتزال في تطوراته الأخيرة كان أكثر تأثرا بالفلسفة اليونانية ويؤكد المستشرق 'أوليري' فيما تبناه الدكتور 'جار الله' أن الفلسفة اليونانية تركت تأثيرا عظيما في التعاليم الإسلامية لذلك كان المعتزلة ينسبون إليها، ويستحقون اسمها، ويعتبرون أول فلاسفة الإسلام، قبل ظهور الفيلسوف 'الكندي' الذي يعتبره النقاد كأول مؤسس للفلسفة الإسلامية. تلكم بعض أهم المبررات التي لعبت دورها في إبراز هذه النخبة المثقفة التي يجب أن تدرس كتراث إسلامي بل كتراث إنساني، يستحق الدرس والتمحيص والتحصيل، وقد سقناها لأننا مازلنا نعتقد أننا في أمس الحاجة إلى هذا الفكر الخلاق، بل يمكن أن يساعد في حسم الصراعات الإيديولوجية التي أثيرت الآن حول الفكر الديني.
المراجع والمصادر:
- فجر الإسلام، ضحى، ظهر للمؤلف أحمد أمين.
- المعتزلة للدكتور محمد أعمارة.
- المعتزلة للدكتور زهدي جار الله.
- فلسفة المعتزلة لجماعة من الأساتذة.
- النزعات المادية للدكتور حسين مروة.
- مجلة آفاق تربوية.
إرسال تعليق