قام فرنسيس بيكون أعظم عقل في العصور الحديثة بقرع الجرس الذي جمع العقول, وأعلن أن أوروبا قد أقبلت على عصر جديد. فلقد شعر بأن الدراسة ليست حكمة في حد ذاتها وأن المعرفة إن لم تكن مقرونة بالعمل ليست سوى زهو وغرور علمي شاحب فهو يقول: أن انفاقك في الدراسة النظرية وقتا طويلا ضرب من الكسل والخمول, والتحلي بها تصنع وتكلف ومحبة في الظهور. واستنادك في حكمك دائما على أحكام الدراسة النظرية وقواعدها ضرب من مجون العلماء ومزاجهم.
فرانسيس بيكون صانع الحضارة الأوروبية |
فرجال الأعمال يذمون الدراسة والبسطاء يكبرونها والحكماء يستخدمونها, فالذين يتلقون الدراسة النظرية لا يتعلمون طريقة استخدامها لأنها نظرية في حد ذاتها .إن تقزيم بيكون للمعرفة النظرية وضع حدا للفلسفة المدرسية المغرقة في التأمل, و رفع من مكانة التجربة والنتيجة التي تميز الفلسفة الإنجليزية , والتي بلغت ذروتها في الفلسفة البرغماتية النفعية أو ما يصطلح على تسميته بالمذهب العملي أو الأداتي .فهو لا يكبر أو يقدر مجرد حياة الفكر والتأمل وهو في هذا مثل "جوته" الذي يحتقر المعرفة التي لا تؤدي للعمل, ويرى بيكون على أن النظام التعليمي كله لا زال نظاما لتخريج أساتذة وإداريين لا مخترعين ومبدعين.
إذا أراد الإنسان أن ينتج أعمالا, ينبغي أن تكون لديه معرفة بحيث يكون عالما وعارفا. لأننا لا يمكن أن نسود الطبيعة إلا إذا درسنا قوانينها, وبذلك نصبح أسيدا لها لأننا بجهلنا بها نكون عبيدا لها . وليس هناك أمل في تقدم العلوم خطوة واحدة إلا باستخدام طريقة جديدة تؤدى إلى الكشف عن الجديد وتساعد على الابتكار لما فيه خير الإنسانية. وقد حمل الفلسفة التقليدية وزر الجمود العلمي والقحط العقلي ويستغرب عجزها عن الإسهام الفاعل في رفاهية الإنسان وتقدمه وسعادته. وقد اعتقد بيكون أنه قد وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة الجديدة التي وضعها للاستقراء، ويقصد به منهج استخراج القاعدة العامة (النظرية العلمية) أو القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا إلى الملاحظة والتجربة. وهذه هي أسس النظرية المنطقية الجديدة، التي استند إليها بيكون في دعوته إلى ضرورة إصلاح المنطق الصوري الأرسطي وتعديله والاستعاضة عنه بمنطق جديد يمهد السبيل أمام الإنسان لكي يستطيع بواسطته الكشف عن ظواهر الطبيعة والسيطرة عليها، أي انه يريد استبدال منهج البرهان القياسي بمنهج الكشف الاستقرائي.يرى بيكون أنه إذا أردنا الوصول إلى الهدف المنشود فلا بد من مراعاة شرطين أساسيين وهما:
1- شرط ذاتي يتمثل في تطهير العقل من كل الأحكام السابقة والأوهام والأخطاء التي انحدرت إليه من الأجيال السالفة.
2- شرط موضوعي ويتمثل في رد العلوم إلى الخبرة والتجربة وهذا يتطلب معرفة المنهج القويم للفكر والبحث، وهو ليس إلا منهج الاستقراء.
إرسال تعليق