قراء مدونة محيط المعرفة الأوفياء تحية طيبة. رأينا في موضوعنا السابق بعنوان الأسس الأيديولوجيا التي يقوم عليها الفكر الشيعي أن الاندماج بين مفهوم الباطن ومفهوم الإمامة، قد أسس في الإيديولوجيا الشيعية ما يسمى بالعرفان الشيعي عن طريق الالهام والوحي بدل العقل والمنطق العقلاني. وأن الإمام هو وحده القادر على تفسير آيات القرآن، أي اكتشاف الأسرار الباطنية من خلال نفي النصوص الظاهرة، لذلك يمكن اعتباره قيم القرآن حسب التعبير الشيعي.
الأسس الأيديولوجية التي يقوم عليها الفكر السني |
أما بالنسبة للسنة، فهي على العكس من ذلك تماما. لأنها تستمد إديولوجيتها من الموقف الفكري القائل بأن النص القرآني ونص الحديث وممارسة الرسول (ص) العملية، هي أشياء ناطقة في حد ذاتها، لأنها تعبر عن الشريعة الإسلامية. والشريعة هي قوانين دنيوية مهمتها ضبط وتنظيم علاقات الناس داخل المجتمع المسلم. لذلك فإن فهم وتطبيق مبادئ الشريعة، التي هي دنيوية بطبيعتها، يتطلبان عقلا دنيويا. من هنا نلمس معارضتها للأيديولوجيا الشيعية الماورائية اللاعقلانية من جهة، واعترافها بالشرعية السياسية لخلفاء المسلمين الذين تعاقبوا على رأس دولة الخلافة منذ وفاة الرسول (ص) من جهة ثانية. وهذا عكس الموقف السياسي الشيعي الذي ناضل دائما من أجل إسقاط دولة الخلافة الرسمية، وإحلال سلطة الإمام.
إن هذا الصراع الإيديولوجي التاريخي بين الشيعة والسنة، والذي غطى التاريخ الإسلامي برمته، ليس بطبيعة الحال صراعا فكريا مجردا، بل هو في جوهره صراع سياسي عميق يعكس رؤيتين سياسيتين مختلفتين جذريا، تعبران بدورهما عن موقفين من المجتمع.
إن جوهر الإيديولوجيا الشيعية، يدور كله حول نقطة واحدة، التي تتمثل في مفهوم الباطن في العرفان الشيعي، وهذا لا يعني شيئا آخر سوى استعمال التأويل كمنفذ يتسرب منه الموروث القديم للمجتمع الما قبل إسلامي. وبالمقابل، فإن التمسك بمفهوم الظاهر السني في الصراع ضد مفهوم الباطن، كما يرمي أساسا إلى سد الباب على الموروث القديم الذي اتخذ التأويل منفذا ومتنفسا له.
وليس صدفة أن تكون أول مناسبة في التاريخ، ينفجر فيها الصراع بين السنة والشيعة، هي الحرب الأهلية بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعا. فلقد انفجرت تلك الحرب في ظروف خاصة كان يجتازها المجتمع العربي الإسلامي الجديد. في ذلك الوقت كانت الفتوحات العربية التي اخترقت حدود الجزيرة العربية، قد ضمت إلى دولة الخلافة مجتمعات أكثر تطورا من المجتمع القبلي في جزيرة العرب. مما يعني ظهور تناقض جديد على السطح، وهذا التناقض كان بين عوامل التركيب الاجتماعي الما قبل إسلامي الذي بدأ يتحطم وبين بروز عوامل موضوعية لظهور دولة مركزية أكثر تطورا.
إن هزيمة علي أمام معاوية كانت تعني حل ذلك التناقض في الاتجاه الجديد، وبالتالي هزيمة المجتمع العربي القبلي أمام المجتمع الإسلامي التجاري. إن تأسيس الدولة الأموية، ونقل دولة الخلافة من الجزيرة العربية إلى سوريا، كان يعني فتح أفاق جديدة امام التطور التجاري.
إن الشيعة رغم نضالهم المستميت والطويل ضد دولة الخلافة، إلا أنها فشلت دائما في قلب نظام الحكم الرسمي. وهذا لسبب واضح، هو أن الأيديولوجيا الشيعية كانت غريبة عن تلك الأقاليم. لذلك فهي لم تحقق بعض الانتصارات السياسية إلا في الأقاليم المتخلفة ذات التركيب الاجتماعي القبلي القوي، مثل المغرب في عهد الأدارسة وتونس في عهد العبيديين الفاطمية. وحتى في هاتين الحالتين، فإنها قد غيرت من طبيعتها بمجرد وصولها إلى السلطة. ففي الحالة المغربية، انطوت الدولة الادريسية على نفسها، واكتفت بخلق نظام سياسي متكيف مع النظام الاجتماعي القبلي العتيق. وكانت الأيديولوجيا الشيعية باهتة جدا، ولم تخلف أية أثار فكرية متميزة.
أما في الحالة التونسية، فإنه بمجرد ما تمكنت دولة العبيديين الفاطمية من توسيع نفوذها السياسي، والاستيلاء على أقاليم الشرق المتطورة اقتصاديا، وهي مصر والشام، حتى اضطرت إلى الانتحار سياسيا، حيث اختارت السير في نفس النهج الاقتصادي السني السابق، ولم تحتفظ سوى بمواجهة أيدولوجية شكلية.
إرسال تعليق