يمكن اعتبار الافلوطينية تفكيرا ميتافيزيقيا يحتقر التجربة ولا يعطيها سوى تفكير ثانوي في تقدم المعرفة. إلا أن الطامة الكبرى في هذه الفلسفة الجديدة كونها مزجت الميتافيزيقيا اليونانية بميتافيزيقيا أخرى أغمض منها ومتنوعة المصادر كالغنوصية التي زادت الفلسفة بعدا عن الواقع وجعلتها مزيجا من التأمل العقلي المجرد ومن التفكير السحري.
الأفلوطينية المحدثة كمطية للغنوصية في العالم الإسلامي |
إن الفلسفة الإسلامية الحقة لم تتناول أبدا الفلسفة من حيث انتهت لدى الأفلوطينية المحدثة، ولكن تلقاها رجال نشأوا في العالم الإسلامي، ولم يستطيعوا أن يردوا أنفسهم عن التفلسف، أما رجال الفلسفة الإسلامية وبمعنى أدق الفلسفة المسلمة، فقد كانوا في حلقاتهم يضعون تصورا فلسفيا جديدا بعيدا كل البعد عن تلك الفلسفة الهجينة التي قذف بها إلى العالم الإسلامي من قبل السريان واليعاقبة و النساطرة والصابئة، وعاونهم عليها امراء الترف الحالمون في قصورهم المترفة. والأفلاطونية الجديدة بشكل عام خليط من الأفكار والفلسفات والمعتقدات الوثنية واليهودية والنصرانية والأساطير وغيرها؛ فقد اقتبست من أفلاطون خيالاته عن عالم المثل، ومن أرسطو تساؤلاته عن الجواهر والمعاني الكلية، ومن الرواقيين السُّمُو الخلقي والترقِّي الروحي، ومن النصرانية تأثيراتها الروحية والخلقية، ومن البوذية مسألة التطهير والتزكية والفناء. إلا أن أفلوطين أضاف اليها أفكاره حول عملية الفيض أو الصدور عن الله يعد جديداً في بابه كما يرى كثير من المفكرين.
لقد تأثر كثير من الفلاسفة المسلمين يالأفلوطينية المحدثة أمثال ابن سينا والفارابي وغيرهم، وأخذوا منها نظرية الفيض الإلهي، التي تدَّعي أن العالم يجيء صدورًا عن الله في صورة فيض، فمرتبة تفيض عن مرتبة ... وهكذا حتى تصل إلى أدنى المراتب.
ولذلك لم تؤثر الأفلوطينية المحدثة في المسلمين، وإن كانت قد أثرت في عدة طوائف حملت أسماء المسلمين، وكانت هذه الطوائف قليلة ومتناثرة. وكان في الأفلاطونية المحدثة "غنوص" تتمثل فيه كل صفات المذاهب الغنوصية ومن أخطرها الغنوص الفارسي القادم من جنديسابور، التي حاولت أن تنفذ إلى أعماق الحياة الإسلامية عبر الأحاديث القدسية الموضوعة بعد عصر النبي محمد(ص), وفيها تلك الصبغة الأفلوطينية المحدثة، مثل قولهم, "أول ما خلق الله العقل, فقال له: أقبل فأقبل، وقال له : أدبر فأدبر، ثم قال: ثم قال : وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقا أكرم علي منك، بك أخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب". هذا الحديث اعتبر قدسيا، بينما كان غنوصيون إسلاميون هم الذين انطقوا الرسول إياه بلسان أفلوطين. غير أن علماء الحديث وفي مقدمتهم تقي الدين بن تيمية اثبتوا وضعه، وصلته بالفلسفة اليونانية وهاجموه هجوما عنيفا، والحديث الآخر " كنت نبيا وآدم بين الطين والماء" حديث أفلوطيني هو الآخر. والحديث الثالث " كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق فبه عرفوني" هو أيضا حديث أفلوطيني.
من هذا نرى أن الأفلوطينية الحدبثة دخلت في علم من أشد العلوم الإسلامية أصالة، ولكن علماء الحديث قاوموا كل الأفلوطينيات مقاومة عنيفة. ولم يتأثر المتكلمون في مباحثهم بالفلسفة الأفلوطينية المحدثة أبدا، اذ أن بين جوهر الفلسفتين تعارضا عنيفا. غير أن بعض الطوائف التي اعتبرت خارجة عن الإسلام، كغلاة الشيعة والبابية والبهائية، اخذت بكثير من قواعد الفلسفة الأفلوطينية الحديثة، ولكن تتصل تلك المذاهب كلها صلة أوضح بالغنوصية الشرقية الممتزجة بعقائد أفلاطونية حديثة من ناحية، ومن ناحية أخرى بفلسفة الهرامسة المشهورة التي وضعها فلاسفة سابقون على أفلوطين, كأمنيوس ساكاس وغيره، وفي تلك المدارس التي سادت الإسكندرية قبل ظهور أفلوطين بوقت قصير جدا.
علي سامي النشار " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام
إرسال تعليق