نجدد الترحاب بمحبي الفلسفة ونواصل معكم اطلالتنا التاريخية على مختلف المدارس الفلسفية بدءا بفلاسفة ما قبل سقراط فبعد أن عرجنا على اناكساجوراس الذي رأى أن العقل علة أولى للتغييرات في الطبيعة لتتعرف أكثر على فلسفته اضغط: فـلسفة أناكساجوراس Anaxagoras وانتقلنا لعصر الفلاسفة الذريين لوقيبوس و ديموقريطس اللذين صاغا نظرية قريبة الشبه بما يقوله
العلم الحديث على صورة تستوقف النظر فهما يعتقدان أن كل شيء مكون من ذرات «atomos» غير قابلة للانقسام يفصل بينها فراغ وأن هذه الذرات أزلية يستحيل فناؤها وستظل إلى الأبد في حركة دائمة للاطلاع على الموضوع اضغط: الفلاسفة الذريون:لوقيبوس و ديموقريطس نأتي اليوم لكشف النقاب على الفلسفة السوفسطائية ذات الطبيعة الشكوكية.
إن الفلسفات العظمى التي ظهرت قبل سقراط، والتي كنا حتى الآن بصدد عرضها، قد قابلتها في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد موجة من الشك ،كان بروتاجوراس كبير السوفسطائيين احد أهم، أعلامها، ولفظة سوفسطائي لم يكن لها معنى مرذول في أول أمرهاإذ كان معناها أقرب ما يكون إلى ما نعنيه اليوم من كلمة "أستاذ" فقد كان السفسطائي رجلا يكسب عيشه من تعليم الشباب بعض الأشياء التي كان يظن أنها قد تنفعهم في حياتهم العملية. ولما لم تكن الدولة تخصص عندئذ من مالها شيء لمثل هذا التعليم ، فقد كان السوفسطائيون يوجهون خدماتهم لمن كان بمقدوره دفع اجورهم من الطبقة الارستقراطية والميسورة في أثينا،وهذا كان من شأنه تكريس الفوارق الطبقية والثقافية بين ابناء المجتمع الإغريقي ، فقد احس الفقراء بالبغضاء والحسد تجاه نظرائهم الأغنياء.ولم يقتصر دور السوفسطائيين على تعليم الميسورين بل والنيابة عنهم في ساحات القضاء فقد كان بمقدورهم التلاعب بالكلمات والباس الباطل ثوب الحق وتحويل الحق إلى باطل.
شكوكية بروتاجوراسProtagoras
ولد بروتاجوراس حوالي 500 ق.م في ابدرير،وهي المدينة التي وفد منها ديمقريطس، وزار أثينا مرتين ،وتروي رواية عنه أنه اضطهد لخروجه عن الدين ،ولكن الظاهر أن هذه الرواية بعيدة عن الصواب على الرغم أنه كتب كتابا أسماه "في الآلهة" بدأه هكذا "أما عن الآلهة فلست أراني على يقين من وجودهم أو عدم وجودهم،ولا من شكلهم كيف يكون، ذلك لأن ثمة أشياء كثيرة تعوق المعرفة اليقينية، وهي غموض الموضوع وقصر الحياة البشرية"ويصف لنا أفلاطون في محاورته "بروتاجوراس" زيارة بروتاجوراس الثانيةلأثينا ،وصفا مشوبا بشيء من السخرية، وهو يناقش آراءه مناقشة جادة في محاورة "تياتيتوس"فهو مشهور قبل كل شيء بمذهبه القائل "إن الإنسان مقياس كل شيء ،فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة ،وان الأشياء غير الموجودة غير موجودة " ويفسر هذا القول بأنه يعني أن كل إنسان هو مقياس الأشياء جميعا،فليس هناك حقيقة موضوعية يمكن الرجوع إليها،لتصويب المصيب وتخطيئ المخطئ،والمذهب في جوهره مذهب متشكك وهو في اغلب الظن مبني على خداع "الحواس".
ويقول شيلر أحد مؤسسي المذهب البرغماتي بالولايات المتحدة الأمريكية ، عن نفسه انه تلميذ لبروتاجوراس ، وأظن ان مرجع هذا أن أفلاطون في محاورة "تيتاتيتوس" يقترح تفسيرا لمذهب بروتاجوراس ان تكون فكرة أفضل من فكرة ، ولو ان الفكرة لا تكون أصدق من فكرة أخرى، مثال على ذلك أنه لو كان شخص مصابا باليرقان، فإن كل شيء يبدو في عينيه أصفر،ولا معنى لقولنا أن الأشياء في حقيقتها ليست صفراء ،إلا أن نقول أنها تبدو بهذا اللون أو بذاك للشخص وهو معافى ، ومع ذلك فيمكننا القول بانه لما كانت الصحة أفضل من المرض ، ففكرة الشخص وهو سليم الصحة أفضل من فكرة الشخص المصاب باليرقان، وواضح أن هذا الرأي شبيه بوجهة نظر البرغماتية.
لقد أنفق بروتاجوراس حياته يحاضر كلما مر من مدينة من مدن اليونان، ويعلم مقابل اجر كل من اراد لنفسه مهارة عملية وثقافة عقلية عليا .
شكوكية جورجياسGorgias
إن الكراهية التي تعرض لها السوفسطائيون ليس من قبل الناس فحسب، بل من أفلاطون وسائر الفلاسفة من بعده ترجع إلى حد ما إلى تفوقهم العقلي، إن البحث عن الحقيقة حين تصدر عن اخلاص تام، لا بد حينها أن يغض النظر عن الاعتبارات الخلقية. فليس في مستطاعنا أن نقدر مقدما أن الحقيقة التي نسعى من ورائها ستجيء مؤيدة لأهواء الناس في مجتمع معين، فكان السوفسطائيون على استعداد أن يتابعوا الحجاج حيث تسوقهم الحجة، وكثيرا ما ساقتهم الحجة إلى التشكك حتى ان أحدهم وهو جورجياس قال " ألا شيء موجود، وانه إن وجد شيء فليس هو بممكن المعرفة، وانه حتى لو فرضنا جدلا أن ثمة شيء موجود، وان شخصا ما أتيح له أن يعرفه، فيستحيل عليه ان ينقله إلى الآخرين" ولسنا ندري الآن ماذا كانت أدلته على رأيه هذا لكنني أستطيع ان أتصور أنها كانت أدلة قوية من الناحية المنطقية، الزمت معارضيه الزاما ان يحموا أنفسهم بدرع من الدعوة إلى الاصلاح.فقد رأى الأثينيون أن هذا المذهب الشكوكي خارج عن الأخلاق ، ففي الكتاب الأول من الجمهورية يحاج تراسيماكوس بانه لا معنى للعدل إلا مصلحة الاقوى، وأن القوانين تسنها الحكومات لمصلحتها، وأنه ليس هناك مقياس موضوعي يمكن اللجوء إليه إذا ما نشب صراع على السلطة، وكذلك اعتنق كاليكليز فيما يروي افلاطون في محاورة جورجياس مذهبا شبيها بهذا، إذ قال أن قانون الطبيعة هو قانون الأقوى ،لكن الناس أرادوا لأنفسهم راحة البال ،فأقاموا من النظم الاجتماعية ومن المبادئ الخلقية ما يشكم القوي . وإني لأرى أن هذه الآراء قد لقيت رواجا في عصرنا الحالي أكثر مما لقيته في العصر القديم. ويمكن ان نقول ان السوفسطائيون قد اصطنعوا مذهبا لم يكن في رايهم ذا صلة بالدين او الأخلاق،فقد كانوا يعلمون فن النقاش وكل ما عسى أن يعين على هذا الفن من ألوان المعرفة. وكانوا على استعداد ليعلموا تلامذتهم فن الدفاع عن آرائهم بغض النظر عن صحتها أو بطلانها لأن الغرض هو افحام الخصوم. لأن الحقيقة نسبية وليست مطلقة وأن مصدرها هو الإنسان لذا فهي تتغير تبعا لمصالحه وشهواته لذا أصبح حري بالفرد أن يجذب الغير إلى جانبه وأن يؤثر في أصحاب القرار بما تقتضيه مصلحته الخاصة.المراجع:
محاورة جورجياس تأليف أفلاطون ترجمة زكي محمود نجيب
محاورة ثياتيتوس تأليف أفلاطون ترجمة أميرة حلمي مطر
محاورة بروتاجوراس تأليف أفلاطون ترجمة عزت قرنى
محاورات أفلاطون ترجمة عزت قرني
الكتاب الأول من الجمهورية لأفلاطون
الكتاب الأول من الجمهورية لأفلاطون
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفإرسال تعليق